تحميل النسخة الانكليزية
BEHIND THE VEIL IN PERSIA AND TURKISH ARABIA * يتقدم بيت الكتاب بالشكر والتقدير للاستاذ صباح صدّيق الدملوجي على ترجمته الدقيقة وتعميمه الكتاب لفائدة القارئ العربي سالم الحسّو - مدير موقع بيت الكتاب |
المَوصِل
في مستهل القرن العشرين مترجم عن كتاب وراء الحجاب في بلاد العرب العثمانية سرد لتجارب ثمان سنوات عاشتها امرأة انكليزية بين نساء الشرق تأليف السيدة م.إي.هيوم-غريفيث أكرّس هذا الكتاب إلى زوجي مع ذكرى لثمان سنوات عطرة 1900-1908 ترجمه إلى العربية صباح صدّيق الدملوجي |
مقـدمــة المتـــرجـم
عليَّ أولاً أن أقرّ بأن الفضل في وصول هذا الكتاب إلى يد القارئ يعود إلى شبكة الإنترنت. والفضل في الأصل يعود إلى واحد من أولئك النفر المجهولين الذين يحمّلون مثل هذه الكنوز على الانترنت([1]). لولا هذا وذاك لما اطلعت على هذا الكتاب الفريد ولما أتيحت لي فرصة ترجمته وإيصاله إلى القارئ العربي.
يقع الكتاب في 358 صفحة وقد نشر سنة (1909) في أمريكا من قبل دار النشر (J.B.Lippincott) وفي انكلترا من قبل دار نشر (Seeley Co.) ويبدو أن هذه كانت طبعته الوحيدة, غير أنه طبع مؤخرا عن طريق استنساخ الطبعة الأصلية القديمة وهو متوفر في مكتبة (أمازون) التي تعمل من خلال الأنترنت.
أسم الكتاب الكامل هو (Behind the Veil in Persia and Turkish Arabia), وهو من تأليف السيدة م. إي. هيوم- غريفيث (M.E. Hume-Griffith) وهي زوجة طبيب بريطاني رافقته لمدة ثمان سنوات خلال مكوثه كطبيب لمستشفى أقامته الجمعية التبشيرية الكنسية الإنكليزية. تغطي هذه المدة أربع سنوات قضياها في بلاد فارس (حيث كان أسمها الرسمي هكذا قبل أن يتبنى الملك رضا شاه بهلوى أسم إيران في عشرينيات القرن العشرين)، انتقلا بعدها إلى ما تدعوه المؤلفة (بلاد العرب التركية Turkish Arabia) وقد دعوناها بدورنا (بلاد العرب العثمانية ) وهو الأصح حيث افتتح زوجها مستشفى في مدينة الموصل وبقيا هناك أربع سنوات أخرى عبر الفترة (1904 لغاية 1908).
حاولت دون جدوى العثور على أسم المؤلفة الأول أكان في الكتاب ذاته أو في أي مرجع آخر، لذا سأدعوها اختصاراً السيدة غريفيث.
نازعني شوق كبير لمعرفة أي شيء عن إقامة هذه السيدة وزوجها في مدينة الموصل وعن المستشفى الذي أقاماه فيها والذي استمر بعمله كما يبدو بعهدة أطباء آخرين حتى نشوب الحرب العالمية الأولى وانقطاع العلاقات بين الدولة العثمانية وبريطانيا. الحقيقة إني لم أسمع من والدي أو من جدتي لأمي اللذين عايشا تلك الفترة أو من أي شخص آخر شيئاً عن ذلك المستشفى. حاولت استطلاع أمر المستشفى من الأخ والصديق الدكتور طاهر الدباغ لكنه لم يزد على معرفته أو سماعه بأي خدمة طبية أجنبية سوى تلك التي كانت تقدمها بعثة الآباء الدومينيكان (الكاثوليك). كذلك جاءت الإجابات سلبية من صديقين آخرين.
غير أن الدكتور ابراهيم العلاف أفادني مشكورا بأن المستشفى مذكور في رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب في جامعة الموصل سنة 2010 من قبل الست نادية مسعود خليل الجراح بعنوان (الخدمات الصحية في الموصل في العهد الملكي 1921-1958) تقول عنه في (ص 13 )أنه كان في محلة شهر سوق في دار مستأجرة تعود إلى أحمد بك الجليلي _والصحيح أنها في ذلك العهد كانت دار أبية أيوب بك الجليلي_. كما تذكره د. لمى عبد العزيز في مساهمتها في (ذاكرة عراقية) لجريدة المدى تحت عنوان (الخدمات الصحية في العراق 1869- 1914) فتقول (اما بالنسبة لولاية الموصل ، فقد امتد اليها نشاط هذه الارسالية سنة 1319 هـ / 1901 م عندما تم افتتاح احدى المستشفيات التي أسندت ادارتها الى الدكتور ستن H. M Sutton أعقبه الدكتور كريفث A. H. Griffith الذي جرى في عهده توسيع المستشفى ، إذ وصل مجموع الاسرة (24) سريراً ، كما انضم للعمل في هذا المستشفى عدد من الاطباء العراقيين منهم الدكتور فتح الله ساعاتي ، والدكتور أبلحد عبد النور ، ويبدو ان الاقبال على هذا المستشفى كان ضئيلاً الى الحد الذي اضطر القائمين على ادارته الى إغلاقه سنة 1333 هـ / 1914 م(. الحقيقة ان سبب الاغلاق كان بالأحرى نشوب الحرب العالمية الأولى حيث أصبح العثمانيون والإنكليز على طرفي النزاع.
السيدة غريفيث كما سيتبين للقارئ امرأة ذكية واسعة الاطلاع وشديدة الفضول، تحب التعرف على دقائق حياة الناس الذين يحيطون بها وممن تختلط بهم. غير أن الاطلاع على دقائق الأمور الحياتية يستوجب معرفة جيدة بلغة القوم إن لم نقل اتقاناً لها، ورغم عدم ذكر المؤلفة شيئاً عن كيفية أو سرعة تعلمها اللغة العربية, إلا أن المعلومات الدقيقة التي تسجلها عن المجتمع الموصلي بدءاً بحمامات النساء وصولا إلى العصيان المدني, مع الندرة الشديدة لمن يتقن اللغة الإنكليزية في الموصل آنذاك ليساعدها في الترجمة([2]) تقنعنا بأن المؤلفة تعلمت العربية (بلهجة الموصل العامية) بصورة جيدة أتاحت لها جمع هذه المعلومات.
يضم الكتاب الذي يغطي فترة بقاء المؤلفة في الشرق قسمين، القسم الأول بالطبع يخص بلاد فارس، أما القسم الثاني فيخص مدينة الموصل. ترجمتي هذه اقتصرت على القسم الثاني الخاص بمدينة الموصل ويقع في (185) صفحة في الأصل الإنكليزي.
اطلعت قبل فترة على تقرير رفعه معاون القنصل الإنكليزي في الموصل سنة (1909) إلى رؤساءه عن أحوال مدينة الموصل والولاية التي هي مركزها. تتطابق الفترة التي يغطيها التقرير مع سرد السيدة غريفيث, لكن من يطّلع على ذلك التقرير لا يسعه إلا أن يصف ذلك الشخص بالاستعماري ذي الذهنية المنغلقة على منظور ضيق لم يستطع التخلص منه. لذا كان تقريره منحازاً ظالماً لأهل الموصل بما لا يتقبله من يحاول أن يكوّن نظرة متجردة عن المدينة. غير أن السيدة غريفيث والحق يقال ليست من ذلك الصنف من الإنكليز. لا شك أن تعاملها اليومي مع الناس والنساء بصورة خاصة أعطى كتاباتها بعداً إنسانياً لم يستطع معاون القنصل أن يصل إليه. قد لا تُعجب آراءها عن المجتمع الموصلي بعض القرّاء لكني مقتنع أن الغالبية العظمى مما ترويه كان صحيحاً, وإذا ما كان هناك بعض مثالب في السلوك أو العادات مما تسرده عن مجتمع أجدادنا فليس هنالك من قوم مثاليين يخلو مجتمعهم من مثالب اجتماعية.
لذا وبعد قراءة كتابها هذا ارتأيت ترجمته. يقدم الكتاب صورة اجتماعية شبه كاملة عن المجتمع الموصلي وبخاصة عالم المرأة والحياة الأسرية لكنه يغطي شيئاً من عالم الرجال كذلك.
السيدة غريفيث وهي القادمة من بلاد الشمال معجبة بجمال نساء الموصل ولا تقصّر في إطراءه([3]). غير أن حياة النساء وما تعتقده من ظلم كان يصيبهم آنذاك تجلب الشفقة على جداتنا في ذلك العصر. ربما كان في ذلك بعض المبالغة، إلا أنه صحيح حسب ما سمعناه. فالشرق والموصل جزء منه كان مرتعاً لأوليغاركية الرجل, ورغم الثقافة التي اكتسبتها المرأة الشرقية خلال السنين المائة الماضية, إلا أن سيطرة الرجل في مجتمعنا لا زالت قائمة وإن كانت بدرجة أهون. لا زلنا نرى الرجال في بعض أصقاع الشرق- بعيداً عن الموصل والعراق والبلاد العربية والحمد لله – يحاولون مع الأسف حرمان الفتيات من الدراسة واكتساب الثقافة. فالجهل خير وسيلة يتبناها النفر الأوليغاركي المسيطر لإبقاء العامة تحت سيطرته. ينطبق هذا سواء كان الأوليغاركي المسيطر يتمثل في الذكور عامة أو في من امتهنوا الدين سبيلاً (ممن ندعوهم ظلماً رجال الدين) أو في طغمة حاكمة من فئة سياسية أو عرقية أو دينية محددة.
هناك أمور غريبة أخرى ترويها لنا مؤلفة الكتاب عن المجتمع الموصلي قبل ما يربو على مائة عام. من يصدق أن رجال الموصل مسلمهم كما مسيحيهم كانوا من مدمني المسكرات ومن المقامرين؟ ذلك ما تقوله السيدة غريفيث نقلاً عن نساء الموصل. هل هو حقيقة أم أنه اتهام ظالم؟ لا بد أن فيه شييء من الحقيقة.
لا مراء في أن أفكار السيدة غريفيث عن بعض التعاليم الإسلامية تشوبها أفكار مغروسة في ذهنها وهي زوجة من هو في الحقيقة مبشر كنسي إضافة إلى كونه طبيباً. لذا أرجو أن يؤخذ بعض ما تذكره هنا وهناك بما يخالف الحقيقة ضمن هذا المنظور. لكنها والحق يقال ليست كبعض الغربيين ممن يقتنصون الفرص أو يختلقون القصص للطعن بالتقاليد الإسلامية. اعتقد في الحقيقة أنها بعد قضاء فترة لا بأس بها في مجتمعات إسلامية شرقية قد وصلت إلى قناعة حول عظمة الإسلام رغم عدم تصريحها بذلك.
الكتاب بمجمله قصة مشوقة ومسلية فهو يعرض لنا المجتمع الشرقي بهيئته الموصلية قبل أن تصله وسائل الحداثة. لم يكن ذلك المجتمع يعرف وسائط النقل الآلية من سيارات أو سكك حديد ناهيك بالطائرات, ولم يعرف الكهرباء أو حتى إسالة الماء وسواها مما ندعوها بالأوجه المادية للحضارة الحديثة. أما الأوجه الإنسانية لتلك الحضارة والتوجهات الاشتراكية أو الديمقراطية أو الليبرالية فكانت مجرد نزعات فكرية ربما قرأوا عنها في جرائد ومجلات ذلك العهد. رغم كل ذلك كان مجتمعهم متوازناً ومستقراً وآمناً. ريما اجازف بالقول أنه كان مجتمعا سعيدا إذا ما قورن بمجتمعنا اليوم.
أرجو أن يتمتع القارئ الموصلي وكذلك العراقي أو العربي من خارج العراق بقراءة هذا الكتاب الذي سيعود به أكثر من قرن إلى الماضي.لا شك أن بعض الباحثين سيجدوا في الكتاب أيضاً ما يفيد من معلومات سجلتها شاهدة عيان عاشت تلك الفترة في مدينة الموصل. وأياً كان القارئ أرجو له وقتاً طيباً مع كتابات السيدة م.إي.غريفيث.
أود قبل اختتام هذه السطور أن أشكر الأخ الأستاذ نضال محمد سعيد على جهوده في قراءة النص المطبوع واجراء بعض التصحيحات وتقديم بعض الاقتراحات القيمة. الشكر موصول كذلك للأخ حازم بديع بكر على مساعدته في تهيئة النسخة الألكترونية من نص الكتاب المعد للطباعة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صباح صدّيق الدملوجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الكتاب محمّل على شبكة الإنترنت من قبل منظمة (Muhammadianism.Org.)، غير أن هذه المنظمة لا تفصح عن نفسها أو مقرها أو حتى عنوانها رغم أنها قد حمّلت العديد من الكتب والبحوث المتعلقة بالإسلام على الشبكة.
([2]) كانت المدارس العثمانية تدّرس اللغة الفرنسية كلغة أجنبية لطلابها كما أن مدارس الآباء الدومينيكان الموجودة في الموصل آنذاك كانت تعتمد الفرنسية أيضاً.
([3]) كانت الديار الموصلية عبر التاريخ، شأنها شأن بقية أصقاع العراق وبلاد الشام هدفاً لغزوات الأقوام الجزرية (الأكدية، الآشورية، الآرامية، السريانية، العربية) ولا تزال, إذ كانت آخر موجة وصلتها قبل قرنين من الزمن
هي هجرة قبيلة شمر. كما أصابتها غزوات من أقوام آرية جنوبية (حورية، ميدية، إيرانية، كردية), ومن أقوام تركية. إلا أن ما لاحظه زينوفون (Xenophon) القائد الإغريقي لحملة العشرة آلاف في كتابه (اناباسيس) في طريقه بحدود سنة (400 ق.م) من طيسفون مروراً بنينوى وكاردوخي (بلاد الأكراد) إلى طرابزون على البحر الأسود عن سكان منطقة نينوى بخلاف سكان تلك المناطق, هو شبههم بالإغريق. جلبت هذه الملاحظة انتباهي رغم عجزي عن تقديم تفسير لها حتى قرأت في إحدى كتب المؤرخ أرنولد تويبني الذ أفاد (اعتمادا على هيرودوتس) أن قسما من القبائل الاسكيثيية (Scythians) - وهم من أقوام الشمال الآرية التي تسكن سهول روسيا وبلاد القفقاس- الذين كانوا حلفاء للآشوريين حاولوا الوصول إلى نينوى لمساعدة الآشوريين لكن قدومهم كان متأخراً إذ وجدوا نينوى ركاماً وقد أحرقها الـميديون والبابليون. يبدو أيضاً أنهم وجدوا المنطقة كلها قاعاً بلقعاً قفراً من السكان فقرروا استيطانها وأرسلوا إلى بني قومهم ليلحقوا بهم وهكذا عمروا أرض آشور ليراهم زينوفون فيها بعد قرنين ويرى فيهم ملامح الإغريق الأوروبية. لذا فسكان الديار الموصلية لديهم أصول آرية شمالية, أضيفت إليها بعد قرنين أو نحو ذلك أصول جزرية عربية ممن أسسوا مملكة (عربايا) في الحضر في القرن الثالث قبل الميلاد, سبقتها وتلتها هجرات آرامية ولا شك أيضا كردية من الجبال. كانت الديار الموصلية مع الفتح العربي آهلة بالقبائل العربية من بني نمر وبني تغلب الذين غلبت لغتهم على المنطقة ليُستكمل تعريبها على يد جيوش الفتح. تشابه الموصل في هذا بلاد الشام التي اختلط العنصر الاغريقي الروماني فيها مع الاصول الجزرية (السامية) القديمة والتي أضيف إليها العنصر العربي فيما بعد. من المعلوم أن بلاد الشام خضعت للحكم والاستيطان الأغريقي الروماني لنحو ألف سنة (منذ غزو الاسكندر المقدوني حتى غزو الجيوش الاسلامية). لا شك أن اختلاط الأجناس هذه قد ولّد سلالة تتمتع بمزايا تختلف عن سكان الجبال أو سكان جنوب العراق وهو ما رأته هذه الكاتبة وأثار إعجابها.
يقع الكتاب في 358 صفحة وقد نشر سنة (1909) في أمريكا من قبل دار النشر (J.B.Lippincott) وفي انكلترا من قبل دار نشر (Seeley Co.) ويبدو أن هذه كانت طبعته الوحيدة, غير أنه طبع مؤخرا عن طريق استنساخ الطبعة الأصلية القديمة وهو متوفر في مكتبة (أمازون) التي تعمل من خلال الأنترنت.
أسم الكتاب الكامل هو (Behind the Veil in Persia and Turkish Arabia), وهو من تأليف السيدة م. إي. هيوم- غريفيث (M.E. Hume-Griffith) وهي زوجة طبيب بريطاني رافقته لمدة ثمان سنوات خلال مكوثه كطبيب لمستشفى أقامته الجمعية التبشيرية الكنسية الإنكليزية. تغطي هذه المدة أربع سنوات قضياها في بلاد فارس (حيث كان أسمها الرسمي هكذا قبل أن يتبنى الملك رضا شاه بهلوى أسم إيران في عشرينيات القرن العشرين)، انتقلا بعدها إلى ما تدعوه المؤلفة (بلاد العرب التركية Turkish Arabia) وقد دعوناها بدورنا (بلاد العرب العثمانية ) وهو الأصح حيث افتتح زوجها مستشفى في مدينة الموصل وبقيا هناك أربع سنوات أخرى عبر الفترة (1904 لغاية 1908).
حاولت دون جدوى العثور على أسم المؤلفة الأول أكان في الكتاب ذاته أو في أي مرجع آخر، لذا سأدعوها اختصاراً السيدة غريفيث.
نازعني شوق كبير لمعرفة أي شيء عن إقامة هذه السيدة وزوجها في مدينة الموصل وعن المستشفى الذي أقاماه فيها والذي استمر بعمله كما يبدو بعهدة أطباء آخرين حتى نشوب الحرب العالمية الأولى وانقطاع العلاقات بين الدولة العثمانية وبريطانيا. الحقيقة إني لم أسمع من والدي أو من جدتي لأمي اللذين عايشا تلك الفترة أو من أي شخص آخر شيئاً عن ذلك المستشفى. حاولت استطلاع أمر المستشفى من الأخ والصديق الدكتور طاهر الدباغ لكنه لم يزد على معرفته أو سماعه بأي خدمة طبية أجنبية سوى تلك التي كانت تقدمها بعثة الآباء الدومينيكان (الكاثوليك). كذلك جاءت الإجابات سلبية من صديقين آخرين.
غير أن الدكتور ابراهيم العلاف أفادني مشكورا بأن المستشفى مذكور في رسالة ماجستير غير منشورة مقدمة إلى كلية الآداب في جامعة الموصل سنة 2010 من قبل الست نادية مسعود خليل الجراح بعنوان (الخدمات الصحية في الموصل في العهد الملكي 1921-1958) تقول عنه في (ص 13 )أنه كان في محلة شهر سوق في دار مستأجرة تعود إلى أحمد بك الجليلي _والصحيح أنها في ذلك العهد كانت دار أبية أيوب بك الجليلي_. كما تذكره د. لمى عبد العزيز في مساهمتها في (ذاكرة عراقية) لجريدة المدى تحت عنوان (الخدمات الصحية في العراق 1869- 1914) فتقول (اما بالنسبة لولاية الموصل ، فقد امتد اليها نشاط هذه الارسالية سنة 1319 هـ / 1901 م عندما تم افتتاح احدى المستشفيات التي أسندت ادارتها الى الدكتور ستن H. M Sutton أعقبه الدكتور كريفث A. H. Griffith الذي جرى في عهده توسيع المستشفى ، إذ وصل مجموع الاسرة (24) سريراً ، كما انضم للعمل في هذا المستشفى عدد من الاطباء العراقيين منهم الدكتور فتح الله ساعاتي ، والدكتور أبلحد عبد النور ، ويبدو ان الاقبال على هذا المستشفى كان ضئيلاً الى الحد الذي اضطر القائمين على ادارته الى إغلاقه سنة 1333 هـ / 1914 م(. الحقيقة ان سبب الاغلاق كان بالأحرى نشوب الحرب العالمية الأولى حيث أصبح العثمانيون والإنكليز على طرفي النزاع.
السيدة غريفيث كما سيتبين للقارئ امرأة ذكية واسعة الاطلاع وشديدة الفضول، تحب التعرف على دقائق حياة الناس الذين يحيطون بها وممن تختلط بهم. غير أن الاطلاع على دقائق الأمور الحياتية يستوجب معرفة جيدة بلغة القوم إن لم نقل اتقاناً لها، ورغم عدم ذكر المؤلفة شيئاً عن كيفية أو سرعة تعلمها اللغة العربية, إلا أن المعلومات الدقيقة التي تسجلها عن المجتمع الموصلي بدءاً بحمامات النساء وصولا إلى العصيان المدني, مع الندرة الشديدة لمن يتقن اللغة الإنكليزية في الموصل آنذاك ليساعدها في الترجمة([2]) تقنعنا بأن المؤلفة تعلمت العربية (بلهجة الموصل العامية) بصورة جيدة أتاحت لها جمع هذه المعلومات.
يضم الكتاب الذي يغطي فترة بقاء المؤلفة في الشرق قسمين، القسم الأول بالطبع يخص بلاد فارس، أما القسم الثاني فيخص مدينة الموصل. ترجمتي هذه اقتصرت على القسم الثاني الخاص بمدينة الموصل ويقع في (185) صفحة في الأصل الإنكليزي.
اطلعت قبل فترة على تقرير رفعه معاون القنصل الإنكليزي في الموصل سنة (1909) إلى رؤساءه عن أحوال مدينة الموصل والولاية التي هي مركزها. تتطابق الفترة التي يغطيها التقرير مع سرد السيدة غريفيث, لكن من يطّلع على ذلك التقرير لا يسعه إلا أن يصف ذلك الشخص بالاستعماري ذي الذهنية المنغلقة على منظور ضيق لم يستطع التخلص منه. لذا كان تقريره منحازاً ظالماً لأهل الموصل بما لا يتقبله من يحاول أن يكوّن نظرة متجردة عن المدينة. غير أن السيدة غريفيث والحق يقال ليست من ذلك الصنف من الإنكليز. لا شك أن تعاملها اليومي مع الناس والنساء بصورة خاصة أعطى كتاباتها بعداً إنسانياً لم يستطع معاون القنصل أن يصل إليه. قد لا تُعجب آراءها عن المجتمع الموصلي بعض القرّاء لكني مقتنع أن الغالبية العظمى مما ترويه كان صحيحاً, وإذا ما كان هناك بعض مثالب في السلوك أو العادات مما تسرده عن مجتمع أجدادنا فليس هنالك من قوم مثاليين يخلو مجتمعهم من مثالب اجتماعية.
لذا وبعد قراءة كتابها هذا ارتأيت ترجمته. يقدم الكتاب صورة اجتماعية شبه كاملة عن المجتمع الموصلي وبخاصة عالم المرأة والحياة الأسرية لكنه يغطي شيئاً من عالم الرجال كذلك.
السيدة غريفيث وهي القادمة من بلاد الشمال معجبة بجمال نساء الموصل ولا تقصّر في إطراءه([3]). غير أن حياة النساء وما تعتقده من ظلم كان يصيبهم آنذاك تجلب الشفقة على جداتنا في ذلك العصر. ربما كان في ذلك بعض المبالغة، إلا أنه صحيح حسب ما سمعناه. فالشرق والموصل جزء منه كان مرتعاً لأوليغاركية الرجل, ورغم الثقافة التي اكتسبتها المرأة الشرقية خلال السنين المائة الماضية, إلا أن سيطرة الرجل في مجتمعنا لا زالت قائمة وإن كانت بدرجة أهون. لا زلنا نرى الرجال في بعض أصقاع الشرق- بعيداً عن الموصل والعراق والبلاد العربية والحمد لله – يحاولون مع الأسف حرمان الفتيات من الدراسة واكتساب الثقافة. فالجهل خير وسيلة يتبناها النفر الأوليغاركي المسيطر لإبقاء العامة تحت سيطرته. ينطبق هذا سواء كان الأوليغاركي المسيطر يتمثل في الذكور عامة أو في من امتهنوا الدين سبيلاً (ممن ندعوهم ظلماً رجال الدين) أو في طغمة حاكمة من فئة سياسية أو عرقية أو دينية محددة.
هناك أمور غريبة أخرى ترويها لنا مؤلفة الكتاب عن المجتمع الموصلي قبل ما يربو على مائة عام. من يصدق أن رجال الموصل مسلمهم كما مسيحيهم كانوا من مدمني المسكرات ومن المقامرين؟ ذلك ما تقوله السيدة غريفيث نقلاً عن نساء الموصل. هل هو حقيقة أم أنه اتهام ظالم؟ لا بد أن فيه شييء من الحقيقة.
لا مراء في أن أفكار السيدة غريفيث عن بعض التعاليم الإسلامية تشوبها أفكار مغروسة في ذهنها وهي زوجة من هو في الحقيقة مبشر كنسي إضافة إلى كونه طبيباً. لذا أرجو أن يؤخذ بعض ما تذكره هنا وهناك بما يخالف الحقيقة ضمن هذا المنظور. لكنها والحق يقال ليست كبعض الغربيين ممن يقتنصون الفرص أو يختلقون القصص للطعن بالتقاليد الإسلامية. اعتقد في الحقيقة أنها بعد قضاء فترة لا بأس بها في مجتمعات إسلامية شرقية قد وصلت إلى قناعة حول عظمة الإسلام رغم عدم تصريحها بذلك.
الكتاب بمجمله قصة مشوقة ومسلية فهو يعرض لنا المجتمع الشرقي بهيئته الموصلية قبل أن تصله وسائل الحداثة. لم يكن ذلك المجتمع يعرف وسائط النقل الآلية من سيارات أو سكك حديد ناهيك بالطائرات, ولم يعرف الكهرباء أو حتى إسالة الماء وسواها مما ندعوها بالأوجه المادية للحضارة الحديثة. أما الأوجه الإنسانية لتلك الحضارة والتوجهات الاشتراكية أو الديمقراطية أو الليبرالية فكانت مجرد نزعات فكرية ربما قرأوا عنها في جرائد ومجلات ذلك العهد. رغم كل ذلك كان مجتمعهم متوازناً ومستقراً وآمناً. ريما اجازف بالقول أنه كان مجتمعا سعيدا إذا ما قورن بمجتمعنا اليوم.
أرجو أن يتمتع القارئ الموصلي وكذلك العراقي أو العربي من خارج العراق بقراءة هذا الكتاب الذي سيعود به أكثر من قرن إلى الماضي.لا شك أن بعض الباحثين سيجدوا في الكتاب أيضاً ما يفيد من معلومات سجلتها شاهدة عيان عاشت تلك الفترة في مدينة الموصل. وأياً كان القارئ أرجو له وقتاً طيباً مع كتابات السيدة م.إي.غريفيث.
أود قبل اختتام هذه السطور أن أشكر الأخ الأستاذ نضال محمد سعيد على جهوده في قراءة النص المطبوع واجراء بعض التصحيحات وتقديم بعض الاقتراحات القيمة. الشكر موصول كذلك للأخ حازم بديع بكر على مساعدته في تهيئة النسخة الألكترونية من نص الكتاب المعد للطباعة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
صباح صدّيق الدملوجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الكتاب محمّل على شبكة الإنترنت من قبل منظمة (Muhammadianism.Org.)، غير أن هذه المنظمة لا تفصح عن نفسها أو مقرها أو حتى عنوانها رغم أنها قد حمّلت العديد من الكتب والبحوث المتعلقة بالإسلام على الشبكة.
([2]) كانت المدارس العثمانية تدّرس اللغة الفرنسية كلغة أجنبية لطلابها كما أن مدارس الآباء الدومينيكان الموجودة في الموصل آنذاك كانت تعتمد الفرنسية أيضاً.
([3]) كانت الديار الموصلية عبر التاريخ، شأنها شأن بقية أصقاع العراق وبلاد الشام هدفاً لغزوات الأقوام الجزرية (الأكدية، الآشورية، الآرامية، السريانية، العربية) ولا تزال, إذ كانت آخر موجة وصلتها قبل قرنين من الزمن
هي هجرة قبيلة شمر. كما أصابتها غزوات من أقوام آرية جنوبية (حورية، ميدية، إيرانية، كردية), ومن أقوام تركية. إلا أن ما لاحظه زينوفون (Xenophon) القائد الإغريقي لحملة العشرة آلاف في كتابه (اناباسيس) في طريقه بحدود سنة (400 ق.م) من طيسفون مروراً بنينوى وكاردوخي (بلاد الأكراد) إلى طرابزون على البحر الأسود عن سكان منطقة نينوى بخلاف سكان تلك المناطق, هو شبههم بالإغريق. جلبت هذه الملاحظة انتباهي رغم عجزي عن تقديم تفسير لها حتى قرأت في إحدى كتب المؤرخ أرنولد تويبني الذ أفاد (اعتمادا على هيرودوتس) أن قسما من القبائل الاسكيثيية (Scythians) - وهم من أقوام الشمال الآرية التي تسكن سهول روسيا وبلاد القفقاس- الذين كانوا حلفاء للآشوريين حاولوا الوصول إلى نينوى لمساعدة الآشوريين لكن قدومهم كان متأخراً إذ وجدوا نينوى ركاماً وقد أحرقها الـميديون والبابليون. يبدو أيضاً أنهم وجدوا المنطقة كلها قاعاً بلقعاً قفراً من السكان فقرروا استيطانها وأرسلوا إلى بني قومهم ليلحقوا بهم وهكذا عمروا أرض آشور ليراهم زينوفون فيها بعد قرنين ويرى فيهم ملامح الإغريق الأوروبية. لذا فسكان الديار الموصلية لديهم أصول آرية شمالية, أضيفت إليها بعد قرنين أو نحو ذلك أصول جزرية عربية ممن أسسوا مملكة (عربايا) في الحضر في القرن الثالث قبل الميلاد, سبقتها وتلتها هجرات آرامية ولا شك أيضا كردية من الجبال. كانت الديار الموصلية مع الفتح العربي آهلة بالقبائل العربية من بني نمر وبني تغلب الذين غلبت لغتهم على المنطقة ليُستكمل تعريبها على يد جيوش الفتح. تشابه الموصل في هذا بلاد الشام التي اختلط العنصر الاغريقي الروماني فيها مع الاصول الجزرية (السامية) القديمة والتي أضيف إليها العنصر العربي فيما بعد. من المعلوم أن بلاد الشام خضعت للحكم والاستيطان الأغريقي الروماني لنحو ألف سنة (منذ غزو الاسكندر المقدوني حتى غزو الجيوش الاسلامية). لا شك أن اختلاط الأجناس هذه قد ولّد سلالة تتمتع بمزايا تختلف عن سكان الجبال أو سكان جنوب العراق وهو ما رأته هذه الكاتبة وأثار إعجابها.